مأساة توزيع المساعدات في غزة تتجاوز الإنسانية
في مشهد مؤلم، يتحدث الناجون عن معاناة الفلسطينيين في مواقع توزيع المساعدات، حيث تتحول المساعدات إلى فخاخ موت. يروي المقال قصصًا إنسانية مؤثرة عن الأمل واليأس، ويكشف عن انتهاكات جسيمة ضد المدنيين.

في 6 يونيو، قررت للمرة الأولى أن أتوجه إلى أحد مواقع التوزيع التي تديرها ما يعرف بمؤسسة غزة الإنسانية. وسرت على الأقدام مسافة 12 كم، وكان برفقتي بعض الأصدقاء.
ذهبت بأمل ضعيف في الحصول على بعض الطعام لعائلتي. ما واجهناه لا يحمل أي أثر للإنسانية. كان المشهد الذي رأيناه في مركز التوزيع يشبه ساحة المعركة.
كانت المركبات العسكرية الإسرائيلية تقف إلى جانب شاحنات مؤسسة غزة الإنسانية، وأمامها حاجز ضخم. كان جنود الاحتلال متمركزين في مواقع مرتفعة، وأسلحتهم موجهة مباشرة إلى المدنيين الفلسطينيين المتجمعين.
وفي إحدى المراحل، وصلت شاحنتان وألقوا المساعدات على الأرض بطريقة مهينة. وقوبل كل من حاول الاقتراب بإطلاق النار من الجنود الإسرائيليين. وفي نهاية المطاف، أعلن جندي إسرائيلي عبر مكبر الصوت: "الآن يمكنكم الحصول على المساعدات"، فاندفع الحشد نحو الصناديق.
تدافع الرجال، وبكى الأطفال، وارتجفت النساء من الخوف والإرهاق. تمكنت أقلية صغيرة فقط من وضع أيديهم على بعض المساعدات. حاول البعض السرقة من أولئك الذين نجحوا في الوصول. الغالبية العظمى، وأنا منهم، عادوا إلى منازلهم خالي الوفاض.
شعرت كما لو أننا كنا نبيع كرامتنا مقابل الفتات. رأيت في ذلك إذلالًا متعمدًا، وإعادة تشكيل لوعي مجتمعنا المتعلم، وتحويله إلى مجتمع محطم.
ذهبتُ مرتين أخريين إلى موقع مؤسسة غزة الإنسانية.
في الرحلة الثالثة، كان برفقتي نادر، وهو شاب يبلغ من العمر 23 عامًا كنت قد تعرفت عليه أثناء النزوح. كان نادر يعيش بالقرب مني ويذهب بانتظام إلى موقع مؤسسة غزة الإنسانية.
قبل الإبادة الجماعية، كان يعمل حارسًا في ملجأ للأيتام في شرق خان يونس. كان يقوم بأكثر من مجرد حراسة الملجأ، فقد كان يعتني بالأطفال ويساعدهم في حياتهم اليومية ويمنحهم الشعور بالأمان. وبعد أن دُمرت حياته، أخذ على عاتقه مسؤولية إعالة أسرته وأطفال أقاربه.
كنت أراه عائدًا من مواقع الإغاثة مغطى بالغبار من رأسه حتى أخمص قدميه، منهكًا تمامًا، ومع ذلك كان يستقبلني بابتسامة باهتة حتى عندما لم يتمكن من الحصول على أي شيء.
في 19 يوليو/تموز، استعد نادر وابن عمي خالد البالغ من العمر 16 عامًا للذهاب إلى موقع مؤسسة غزة الإنسانية. قررت عدم الذهاب، بعد أن فقدت كل أمل في ذلك المكان، بعد أن اقتنعت تمامًا أنه فخ يُقتل فيه الغزيون يوميًا تحت شعار "العمل الإنساني".
قالوا إنهم سيحاولون الوصول إلى هناك مبكرًا لتأمين الطعام. لم يعد نادر أبدًا. عاد خالد مصابًا بشظايا في ساقه.
شاهد ايضاً: إسرائيل ترتكب "أعمال إبادة جماعية" من خلال قطع المياه عن غزة، وفقًا لمنظمة Human Rights Watch
كانت القوات الإسرائيلية قد فتحت النار وأطلقت عدة قذائف على المدنيين الجائعين. كان معظم الشهداء في مقدمة الصفوف الأمامية. أصيب نادر بثلاث رصاصات، في الصدر والبطن والساق، إلى جانب شظايا قذيفة سقطت بالقرب منه.
كان استشهاد نادر مدمّرًا لعائلته؛ فقد كان معيلهم الوحيد. لم يجدوا الكلمات للتعبير عن حزنهم، فقط الدموع التي انهمرت على جسده الهامد، وهم يرثونه.
سُجّل استشهاد نادر في الإحصائية القاتمة للشهداء الفلسطينيين الذين استشهدوا في مواقع توزيع المساعدات، والتي تبلغ اليوم 1500 شهيد. بالنسبة للعالم، كان مجرد رقم، أما بالنسبة لي، فقد كان رجلًا طيبًا لم يؤذِ أحدًا بل ساعد الآخرين دائمًا، سلبه الاحتلال كل شيء، بيته، وظيفته، أحلامه بالسفر والعمل في التصميم ومونتاج الفيديو. عائلته الآن محكوم عليها بالموت جوعًا.
منذ أن بدأت مؤسسة غزة الإنسانية عملها في غزة قبل أكثر من شهرين، أدانتها جميع المنظمات الإنسانية الكبرى تقريبًا وأدانت طريقة توزيعها للمساعدات.
في 7 أغسطس، نشرت منظمة أطباء بلا حدود تقريرًا بعنوان: هذه ليست مساعدات. هذا قتل منظم. وقدمت أدلة طبية على استهداف المدنيين بشكل متعمد، ووصفت مواقع مؤسسة غزة الإنسانية بأنها "مصائد موت".
وقبل ذلك بأسبوع، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرًا ذكرت فيه أن ما يحدث يشكل جريمة حرب، مشيرةً إلى أن إطلاق النار الممنهج على المدنيين الفلسطينيين دون مبرر هو انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. وأكدت أن توزيع المساعدات تحول إلى "حمامات دم منتظمة".
وما يزيد من فظاعة جرائم المؤسسة أن قيادتها تنكر ما يحدث وتتبنى رواية الاحتلال. فقد أعلن رئيسها، جوني مور، أنه لا توجد مجاعة في غزة، متجاهلاً التقارير الطبية التي توثق ارتقاء الأطفال من الجوع. واتهم حماس بسرقة المساعدات ورفض التقارير حول الوضع الإنساني ووصفها بأنها "تضليل من حماس".
حتى أنه ادعى أن حماس تعمدت إلحاق الضرر بالمدنيين الفلسطينيين لإلقاء اللوم على الجيش الإسرائيلي أو قوات حرس الحدود. ولكن الحقيقة على أرض الواقع، التي شاهدتها عن كثب، هي أن الأشخاص الوحيدين الذين يحملون السلاح في مواقع مؤسسة غزة الإنسانية هم حراسها المرتزقة وجنود الاحتلال. والفلسطينيون الذين يأتون إلى هناك هم مدنيون يتضورون جوعًا، وعظامهم بارزة من الجوع الشديد.
إن لاستمرار عمليات مؤسسة غزة الإنسانية آثارًا تتجاوز قطاع غزة. إن منح الشرعية لهذه المؤسسة بدلًا من إدانتها وتفكيكها يهدد بتحويل مراكز المساعدات الإنسانية إلى حقول قتل في كل مكان.
شاهد ايضاً: هل ترتكب إسرائيل "تطهيرًا عرقيًا" في غزة؟
لا أريد أن يذهب استشهاد صديقي نادر هباءً. يجب محاسبة كل من تسبب في مقتله، وكل من سمح بتوزيع المساعدات من خلال مؤسسة غزة الإنسانية أو مولها أو أعطاها غطاءً إنسانيًا زائفًا. ما نحتاجه ليس فقط وقف هذه الممارسات، بل محاكمة كل من حوّل المساعدات إلى فخ، واستخدم الجوع كسلاح، وساهم في قتل الأبرياء.
إن السكوت على هذه الجرائم هو تواطؤ، والسكوت اليوم يعني أنها ستتكرر غداً.
أخبار ذات صلة

هل يسعى نتنياهو حقًا للتخلص من حماس أم أنها مجرد ذريعة؟

نهاية الخوف في سوريا

تركيا تنفي مزاعم الولايات المتحدة بشأن التوصل لوقف إطلاق النار مع المقاتلين الأكراد السوريين
